RSS

الاثنين، 31 مايو 2010

الأمن مستتب - ( قصة قصيرة )


إهداء :
إلى روح كل شهيد اغتيل بيد ( أخيه ) على الحدود المصرية – الفلسطينية

( 1 )

لولا بصيص الضوء الذى تجرأ على هتك طبقات الليل الكثيف بشعاع أصفر ممطوط ليتلامس بمنتهى طرفه الأخير مع نافذه كابيته الخشبية المطلة من ارتفاعها بزوايا رؤية مفتوحة على الجانب الأخر أثناء مناوبته الدورية للمراقبة ... لما استطاع أن يتعامد بقلمه المحشو بالكلمات التى انشـــغل بترتيبها و تخزينها داخل ثنايا عقله طوال النهار على سطور ورقة تنتظر فى جيب سترته بمساحة فراغها كى تعانق سطورها كلماته الملهوفة ... تخير رأس المقدمة .
والدى الحبيب / ...
... بعدها .
إنهال بكلمات جائعة التهمت فى طريقها عدة سطور صاغ بها .. لحظات .. مواقف ..حزمة أيام عبرها وحده منذ ان غادر بسنه القانونى جلسته المفضله فى ( تعريشه الخوص ) القائمة على قيراط الأرض الذى يمنحهم - حيواتهم السبعة .
... أشار فى جملة لبعض معاناة جديدة ...عكس بقفرة مضادة تحمل صلب يطمئن ... خفف وطأة كلامه الجاد بموقف ضاحك لكنه لم يقو أن يخف نوبات شوق تجتاح خلاياه يتمنى فيها أن يراه من جديد ..(شوشرة آلية ) تنفث بحشرجة مكهربة من جهاز اللاسلكى ... يتذكر سبب وجوده ... يركن قلمه وورقته سريعا ... ينهض منتصبا يمسح بنظرة متفحصة الجانب الأخر .
يراهم كما تركهم داخل كوفياتهم المنقطة يندمجون فى ظروف حياتهم المختلفة وراء النقطة الحدودية حيث يقف ...( شوشرة و صوت رسمى رتيب)

- إيه الوضع عندك يا دفعة ؟
- الأمن مستتب ... يا فندم .
,,, سريعا غادره صاحب الصوت وراء جملته التقليدية التى اعتاد على ترديدها له فى كل مرة ... الصمت عاد إليه ... تجمع فى الزاوية .. قلمه ... ورقته .. ثم حرر أخر كلمة توقف فيها .
... شرع يمزج منها مشاعره وأفكاره و يومياته قبل أن يضربه من الخلف نفس الهاجس الذى يجعله يتلفت حول نفسه داخل رجفة تمضى بحرية داخل جسده المتوتر .
- هل يخبره ... ؟ هل يتقاسم معه هذا السر المخيف ؟
حسم أمره ...
" والدى ... الأرض هنا بتتنفس طول الليل "
قالها له بكل تأكيد ...
رغم أن – زملاءه القدامى فى (المعسكر ) باتوا يضحكون عندما يخبرهم بأن هناك فعلا أنفاس تعبر تحته و أحيانا تلسعه حرارتها داخل برج المراقبة من كثرتها .. وجد أن الكل يعرف ذلك ... قائده يقول / الحل إننا يجب أن تكون أيضا فى باطن الأرض حتى تحترمنا تلك الأنفاس .
قبل أن يتركه يعود وحده ..ليقف فى مكانه .

( 2 )

اندماجه بين محتوى رسالته ... أسقط منه عداد الوقت بينما يحاول أن يضغط خطه أمام زحام قصص قد تشبع رغبة والده الذى أصر على أن يجعله يكتب له رسالة أسبوعية تطمئنه عليه .. فهو ( البكرى الغالى ) كما تخير أن يلقبه دوما .
جملتين أخرتين له ...
ثم تذكر بقوة نظرتها الخجلة قبل أن ينضب منه بياض السطور ... ( دفعة صفا ) ... تخيرها فى أجازته الأخيرة من كل بين بنات القرية لتملأ قلبه البكر .. ( دفعة انتباه ) .. وعدها بأن يكمل بها للأبد ضلعه الناقص بعد أن منحه والدها موافقة مباشرة ... يذهب بشرود هائم إلى مخزون .. نظرتها .. ابتسامتها ... لهجتها . لكن تهاوت منه مع فزعة مفاجئة رغبة تذكر لون عينيها .
... تمدد بدهشته واقفا فى المنتصف ... دفعات مضغوطة من صرخات هائجة تحتاج جنبات كابينته بعنف ... اندفع للنافذة يستطلع .. يحمل دقات قلبه فى عينيه ... كتل بشرية يفترش ملامحها غضب عاصف تأتي نحوه من الجانب الأخر .. ( شوشرة و صوت رسمى متلاحق )
- فيه إيه يادفعه عندك ؟
- فوضى .. يا فندم .
- اثبت مكانك ... استنى التعليمات .
- تمام يا فندم .
يتشبث بمساحته ... ينتظر بنظرة مصلوبة علي وجوهم المنفقله من الإنفعال و هم مازالوا يحملون صباحا ممزقا فى أعينهم ... يرونه .. يصبون على شخصه .. أرضه .. وطنه مصهور صدورهم
- لماذا ... ؟
لم تسعفه إجابه منطقية ... فهو كثيرا ما ألقى عليهم تحية المساء ... حتى إنه أكد على والده المحنى بسنينه السبعين أن يتذكرهم بدعاء حقيقى قد يخرجهم من معادلة الصفر .. الغضب يتصاعد عليه ... دهشته تتكور داخل صدره ... البعض منهم يزحف على الأسوار .. ملامحهم تتبدل بقسوة أمامه ...( شوشرة و صوت منفعل )
- مين إل بيهاجمك يا دفعه ؟
- الظاهر أخويا يا فندم
- مين إل بيهاجمك يا دفعه ؟
- أبويا يا فندم
- مين إل بيهاجمك يا دفعة ؟
- ابن عمى و أمى يا فندم
- اثبت ... و اضبط النفس ... استنى التعليمات .
تبقى من الرسالة سطر فارغ ...
والده كثيرا ما حدثه بأن العدو الوحيد لنا لا يرتدى كوفية ... كوفيات تتلاحق على الأسوار ... تزحف على سيادته ... تمطره أحجار معكوسة الاتجاه ...
- هل أخبره بأن العدو .... يضحك الآن ؟
لحقته فى غمرة سؤاله نقطه حمراء مهزوزة تصر على أن تشتبك مع لون بذته خدمته المموه .. يتراجع .. يحاول أن يتفادها .. تلحقه ... بين ضلعى زاوية يحاول أن يستر سنين عمره ... فروق ألواح الخشب القلقة تكشفه ... يصرخ بأنه ليس المقصود هنا ... فهو خرج فى مظاهرة لهم ... هتف لهم .. و رفع لهم علم ... يحفظ التاريخ مثلهم .
لكن يبدو أن النقطة الحمراء لم تفهم وهى تتوقف عليه بتركيز .
" حاشية "
رأيت اليوم والده فوق عكازه العتيق ... يمسك بورقه سلمها له أحد جنود المعسكر أثناء تسليم باقى متعلقاته ... يدور بخطى مهدودة شوارع القرية الثقيلة .. يقف مع كل شاب يطلب منه أن يفسر له الرسالة .. الكل يعجز أمام ثلاث بقع حمراء داكنة افترشت قلب الرسالة .

0 التعليقات:

إرسال تعليق