RSS

الثلاثاء، 4 مايو 2010

كتاب قديم - ( قصة قصيرة منقولة )



قصة رائعة بجد من كتابة الأستاذ وليد
منقول من مدونة : عارفه .... مش عارف ليه

اتمنى له كل التوفيق
-----------------------------

خرج من مصلحته الحكومية منتشياً وفي جيبه أول راتب شهري يتقاضاه منذ تعيينه، متخذاً قراره بالاحتفال بهذه المناسبة لقهر إحساس الوحدة المسيطر عليه منذ فراق والداه للحياة حيث يعيش وحيداً في منزل العائلة، فكر ملياً في كيفية الاحتفال أثناء هبوطه من الدور الخامس في طريقه للخروج من مقر عمله، وكلما هبط دوراً انخفض معه مستوى الاحتفال كلما تذكر أحد الأعباء المالية المطالب بقضائها، ومع وصوله للطابق الأرضي اختزل احتفاله في زيارة لـ "عم سند" بائع الجرائد

رفع ياقة قميصه قليلاً علها تحميه من تلك النسمات الخريفية عندما حاول عبور الشارع للجانب الآخر، مد يده في جيب بنطلونه الخلفي وأخرج محفظته قبل أن يصل إلى "فرشة الجرائد" بقليل، أخذ منها خمسة جنيهات وبرمها في شكل دائري ثم خبئها في قبضة يده اليسرى، لمح "عم سند" لا يحرك ساكناً بعد بلوغ يومه منتصفه مرتدياً بنطلوناً أسوداً قديماً وسترة "كاكي" بعض "زرايرها" النحاسية مفقودة وقد سيطر اللون الأبيض على فروه رأسه جالساً على مقعد مربع خشبي ليس له ظهر مهترئ بالرغم من عمليات ترميمه الواضحة وبجوار الكرسي بعض المجلات الصادرة حديثاً والجرائد اليومية أسفلها على الرصيف، يليهما بعض الكتب ذات العنوانين الساخنة سياسياً أو جنسياً ثم كتب فن الطهي وتفسير الأحلام، وفي نهاية الرصيف بعض الكتب المستعملة المكدسة فوق بعضها، وبابتسامة باهتة

ـ السلام عليكم، أزيك يا "عم سند"؟

رفع يده اليمنى بالقرب من رأسه مكتفياً بتلك الإشارة رداً للتحية

ـ مفيش عندك والله …؟

قبل أن يتم سؤاله أشار إليه بسبابته نحو نهاية "الفرشة" ثم أدار وجهه إلى الجانب الآخر

استمر في ابتسامته الباهتة متوجهاً إلى المكان الذي يعرفه جيداً، جالساً في وضع القرفصاء وهو يقلب بين الكتب القديمة عله يجد ضالته بينها، وأثناء بحثه لمعت عيناه عندما وقعت بين يديه رواية "إني راحلة" ـ ليوسف السباعي ـ نهض من مكانه دون أن يرفع نظره عن غلافها، متجهاُ نحو "عم سند" تاركاً في يده الخمس جنيهات مستمراً في طريقه ومن ثم وضعها الآخر في جيبه دون أن يعرف قيمتها، وكأن هناك عقد بينهما يعرف كل منهما دوره ويقوم بتأدته باقتدار

قام بتسخين بقايا طعام أعده قبل أمس ووضعه على السفرة جالساً عينيه تغدو وتعود بين الأطباق التي أمامه وغلاف روايته، وبعد أخذ ورد بينه وبين نفسه لم يستطع الإنتظار حتى ينهي طعامه، مما دفعه لفتح صفحتها الأولى ليقرأ مجدداً اسم الرواية وكاتبها، وفي مساحة بيضاء من تلك الصفحة رأى بعض كلمات كتبت بقلم رصاص باهت بعض الشيء مدققاً نظره لقراءة سطورها

" أقف وحيدة
في عالم كبير
لا استطيع الحركة مكبلة
لا يحق لي أن أحس
لا يجوز أن أتكلم
كل ما يسمح به لي
أن لا افعل أي فعل
بالله عليك يا عالمي
أنى أرضى بسكوتي
أوافق على تقيدي
فقط اتركني وحيدة منسية
ولا ترسل من ينهشني
دعني أعيش وحدتي بكرامة وعزة
أذلك كثير علي !!؟؟"

لم يعير الأمر اهتماماً واستمر في تقليب صفحات قصته، لكنه كلما انهى ورقة ذاهباً لأخرى وجد على هامشها خاطرة جديدة وبنفس الخط ، وكلما أشبع عينيه بالقراءة عف عن غدائه إلى أن قام بإعداد كوب من الشاي وهو شارد الذهن، مشغولاً بأمر تلك الخواطر أكثر مما كتبه مؤلف الرواية، حمل صينية الشاي قاطعاً المسافة بين المطبخ وحجرة المعيشة وهو يرمق قصته في طريقه بطرف عينيه، وبجوار مقعده الوثير في حجرة المعيشة ترك الشاي ثم خفض صوت موسيقاه الهادئة قليلاً وعاد إلى روايته وحملها برفق وكأنها صديقته يدعوها للرقص

أعاد قراءة كل ما سبق من خواطر مجدداً ـ ونسي أمر روايته ـ سعياً منه لإماطة اللثام عن صاحبة تلك الخواطر عله يجد ما يدله عليها مع قراءة المزيد مما كتبته على الهامش، لكنها أنسته مبتغاه بأسلوبها الساحر الرقيق في وصف مشاعرها، هنا خاطرة تلهو فيها وتقفز مثل الأطفال، وفي صفحة تالية يائسة بائسة عازفة عن ما قد يحمله الغد من أمل، وفي أخرى لحظات حبها الأول في مدرجات الجامعة، وفي تالية مشاعر إحباطها بعدما خبى حبها سريعاً مثلما اشتعل سريعاً، و في أخرى تصف ما تتعرض له من نظرات ضيق وتأفف من صديقاتها خوفاً منهن أن تستأثر بقلب أحبائهن

أدرك إنها تسجل خواطرها اليومية على هوامش كتبها، مستعيرة في بعض الأحيان بجزء شهير من حوار أحد الأفلام يحمل بداخله تجربة حياة، أو مقطع من أغنية ربما سمعتها والرواية بين يديها، أو بيت شعر لأحد شعرائها المفضلين والذين تعرف عليهم من تكرار أشعارهم بين خواطرها حسب الحالة المزاجية لها وقت كتابتها، وتراوحت خواطرها بين لهيب الصيف … وسقوط أوراق الخريف … وصقيع الشتاء … ونضارة الربيع

وفي منتصف الرواية وجد زهرة تيوليب حمراء جفت عروقها منذ أمد، وعلى يمينها خاطرة تحكي علاقتها بالزهور حينما تتلامس أوراقها وجنتيها، وعشقها لأشواكها حينما تشعر بوخذها في رقة تدمي جراحها، وعلى الهامش المقابل للصفحة اليسرى تتخيل نفسها في حجم "عقلة الأصبع" تلهو بين حقول التيوليب الحمراء مختبئة بداخل إحدى زهوره ثم تبدي وجهها من بين أوراقها ومن ثم تنزلق على فروعها الممشوقة المبللة بالندى وهي تطارد فراشة قافزة من زهرة إلى أخرى خلف فراشتها …أو حلمها

استمر في قراءته بنهم حتى وصل للصفحة الأخيرة والتي كتبت بها أخر ما جال بخاطرها، كلمات أغنية

"مركب ورق …في البحر

والبحر قلبه … كبير كبير
مركب ورق قلبي … بتعاند المقادير

موج يخدها لفوق … وموج يطوحها
شطوط بتحضنها … وشطوط بتجرحها

والبحر بجلاله … كتير مبيسعهاش
مركب ورق قلبي … أوان فرحها مجاش"

رفع رأسه قليلاً على صوت بعض العصافير من سكان الشجرة المجاورة لشرفته مشاهداً ميلاد فجر يوم جديد في غفلة منه، نهض من مقعده متجولاً ذهاباً وإياباً وهو يفكر في ذلك الصباح الذي جاء حاملاً معه آلاف الأسئلة التي تبحث عن إجابات … من صاحبة هذه الخواطر؟ كيف أسرته بخواطرها الساحرة؟ هل هي من عالمنا أم من عوالم أخرى؟ كيف الوصول إليها؟ متزوجة الآن أم لا؟ لماذا تكتب خواطرها بهذه الكيفية ألا تخشى عليها ... أو منها؟ ولماذا تنثر رسائلها في الهواء؟ ألم يكن جديراً بها أن تذكر اسمها وتكفيه حيرته؟ لقد تجمع بها كل ما يتمناه في فتاة أحلامه إنها تختلف عن أي فتاة عرفها… لو قدر له لقاءها حتماً ستسعده من تملك هذه الشخصية وحتماً سيسعدها لأنه قراء تلابيب عقلها وعرف ثنايا روحها… ولكن كيف الوصول إليها؟ ووسط حيرته هذه قفز إلى ذهنه "عم سند" ربما يجد لديه الإجابات الشافية لأسئلته

كان "عم سند" على نفس هيئته التي تركه عليها البارحة، لكنه أكثر نشاطاً مع ساعات الصباح الأولى، أقترب منه وسلم عليه بيد وفي الأخرى قصة الأمس بادياً عليه الإرهاق إثر تلك الليلة التي جافه فيها النوم، غلب الضيق على "عم سند" عندما لمح الكتاب في يده مردداً في نفسه "يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، على الصبح كده واحد عايز يرجع كتاب"، بادل "عم سند" نظر الضيق بابتسامة تحمل بين ثناياها الرجاء

ـ أنا اشتريت منك القصة دي امبارح
ـ أيوة يا أبني
ـ من فضلك متفتكرش مين اللي بعها لك ؟

مستغرباً سؤاله
ـ ليه؟

أجابه مراوغاً
ـ أبداً … بس كنت عايز أسأله لو عنده كتب تانية ممكن اشتريها منه

بنظرة تدل على أنه أدرك أن هذه ليست الحقيقة

ـ لو كان عنده كتب تانية للبيع ممكن تلاقيها مكان ما لقيت كتاب أمبارح، أتفضل دور بنفسك

ذهب محرجاً، لكنه وجدها فرصه للبحث عن أحد الكتب التي قد يكون بها تتمة لخواطرها أو حتى جزء سابق لها، وكلما أمسك بكتاب فتح ضفتيه مقلباً في صفحاته عله يجد ضالته، ثم يتركه ممسكاً بآخر، وكان يرمقه "عم سند" بطرف عينه من حين لآخر وعندما لمح اليأس قد تملك منه وهو جالس القرفصاء بين الكتب القديمة، اتجه نحوه ومد له يده لكي يمسك بها لينهض

ـ ما تقولي يا أبني بتدور على أيه بالظبط علشان أقدر أساعدك

لم يجد أمامه بد من ذكر حقيقة أمره
ـ والله يا "عم سند" في حاجة غريبة لاحظتها في الكتاب اللي أخدته منك لإن صاحبة الكتاب كانت بتسجل خواطرها على هوامش الصفحات، وبصراحة كنت عايز اعرف منك مين اللي باعت لك القصة دي؟

ابتسم في حكمة عندما رأى الصدق في عينه والحيرة أيضاً
ـ شوف يا ابنى أنا مش فاكر الكتاب ده مين اللي باعه ليا، وحتى إن كان واحد ولا واحدة كل يوم بيمر عليا أشكال وألوان من البشر، وحتى لو افتكرت ايه اللي يضمن لك إن اللي اشتريته منه هو اللي كتب الخواطر دي مش يمكن اشتراه بنفس الطريقة اللي أنت اشتريته بيها، اللي بتدور عليه ده صعب أوي إنك تلاقيه … ممكن تكون اللي كتبت الخواطر دي واحدة من اللي ماشين في الشارع ورآك ، أو حتى تكون مش على وش الدنيا … أتوكل على الله يا أبنى وأنسى الموضوع ده ومتشغلش نفسك بيه وعيش حياتك وأكيد هتلاقي بنت الحلال اللي تسعدك… اللي بتدور عليها دي مستحيل تلاقيها… أنت بتجري ورا سراب

أطبق شفتيه في إحباط وهو يدير وجهه نافضاً عنه غبار الكتب القديمة متوجهاً إلى مقر عمله منكس الرأس، وأصداء خواطرها تدوي في مسامعه وهو يقلب صفحات روايته، وعندما وصل إلى منتصفه حيث "التيوليب" ، أنتبه على خيالات أشباح تمر من أمامه مغادرة مكاتبها بعد نهاية يوم وظيفي، غادر مكتبه غير مدركاً كيف أمضى يومه وهل خاطبه أحدهم أم لا وإذا كان، بماذا أجابه؟ توجه نحو أقرب محل زهور، وأخرج من جيبه مبلغاً من المال وضعه في يد بائع الورد، وبكلمتين مقتضبتين

ـ تيوليب أحمر

حمل زهوره متوجها إلى العنوان الوحيد الذي أدرك أنها ستقيم فيه يوماً ما "المقابر" وعندما وصل إلى هناك وقف حائراً على أياُ منها يضع زهوره … أدار ظهره للقبور جميعاً وهو ينثر التيولب في الهواء دون أن يرى أين سقطت، عله يصيبها إحداها… وإن لم تكن من بين سكانها اليوم ربما يصيبها أثرها حينما تسكنها… ممنياً نفسه بلقاء ما بعد الحياة… وعاد من حيث آتى وهو مازال لا يعرف لها وطن
عن مدونة : عارفه ... مش عارف ليه ؟

2 التعليقات:

!!! عارفة ... مش عارف ليه يقول...

الأخ الرائع إسلام

كل التحية والتقدير لشخصك الكريم

ولذوقك الجم

شرفت بحضور قصتي كتاب قديم هنا في مدونتك المتميزة للغاية

واعتذر عن تأخري المبالغ فيه
لتقديم الشكر لشخص استمتعت بإكتشاف مدونته

تحياتي
وليد الزهيري

eslam el baron يقول...

الأخ الجميل
شكراعل تعليقك و ردك الذى ينم على إن صاحبه شخص يتمتع بالذو العالى ... و يا أستاذ وليد اا مدونتى المتواضعة هى الى شرفت بوجود عمل مميز من كتابتك لأنها فعلا و بدن مبالغة من ( أجمل القصص ) التى قرأتها و أثرت فى لما تتمتع به من رقة فى الأسوب و جمال الفكرة و عبقرية النهاية ( من وجهة نظرى ) لأن فيها حركة و دراما و خط إنسانى هايل و اتمنى دائما أن أقرأ لم ائما ما هو أجمل و أفضل
و شكا كثيرا عل زيارتك الثمينة مدونتى المواعة و أرجو أنا تكون نالت إعجابك
و لا داعى للإعتذار عن التأخير .. فالحياة مشاغل هههه لينا كلنا

أخوك
إسلام البارون
الإسكندرية

إرسال تعليق