RSS

الخميس، 21 يناير 2010

حكاية للمسى .... ( قصة قصيرة )


( 1 )


خيار وحيد ... أمام رغبة والدى المصرة أجبرنى أن انزوى بكل ضآلتى داخل الفتحة الضيقة المختبئة بعناية بين بقايا سلال التخزين المعلقة فى سقف المنزل " الزينكو " الذى سمحت تعريجاته بأن أمسك بذيل أنفاسى الهاربة أمام فيض عاصفة كهربائية ولده شدة التوتر داخل خلايا جسدى البسيط الذى يلامس باستحياء أعتاب حكايات المراهقة الأولى ... أعيد ترتيب الحدث و قد اسـتوقفنى جندى ( بنجمته اليعقوبية ) يقطع عنى الطريق الترابى ... اتجمد و معى هزال حمارى المعلق فى عربة جر يعرفها أهل المخيم الذين قهرتهم تلذذ ساعات الانتظار من أجل عبور حاجز ... ضلوعها الخشبية و عجلاتها
(الكاوتشوك ) المتآكلة تحملهم على المغامرة من أجل أن تتماسك مفردات حياتهم اليومية أمام انفطار الوطن ... أما أنا فقد أوشكت على تجميع ثمن بنطال أخر لم تشرع فيه طعنات القدم تسقط أجزاءه .قبل أن ينبثق هو بسلاحه أمامى من العدم .
... خاطبنى بلكنة .. خاطبته بلغة ... لكنى لم استطع أن أصمد بخوفى طويلا أمام فوهة البندقية التى أطلت منها رأس صغيرة للموت.... أنفلت أجرى ... تلاحقنى رصاصة تناول مقتلها صدر حجر قريب .... تعثرت بعدها مرارا ... ألقى خلفى نظرات فزع حتى تسلمتنى روائح بيوت المـخيم مع ذبول الشمس
أخيرا باب الدار ... سقطت فى حـــجر والدى ببعض جمل مختصرة تغلفها رعشة لا تـــنتهى أعيد له صوت تلك الطلقة التى اسكتت خطوات حمارى على الطريق ... تماسك والدى المعهود يخمد رؤوس آسئلة تردد .. ماذا سيحدث بعد ذلك ؟
- ما تخاف ... ما حدا يقدر يسوى إلك شى طول ما إنى هون .
بخطوتين متعجلتين على سلم ظهره المنحنى لأجلى اتلاشى داخل كثافة ظلام الفتحة الضيقة ... يعيد لملمة جمود الأشياء حولى .
- هل بذلك يحمينى أم يعاقبنى ؟
اشعر بحرمانى المقصود من جلستى المعتادة داخل حلقة أصدقاء أبى الذين اعتادوا بأعمارهم الهرمة أن يتجمعوا حول موقد الشاى فى حوش الدار يتبادلون حكايات المساء .... عادة ما تذهــــب للماضى وتعود محمله بشـخوص وأسماء وجغرافيا مختلفة ومرارة متواصلة ..اندمج فيها كثيرا .. و أنا أسايرفراغ فترة الظهيرة باسترجاع أحداثها مع رفقائى المغبرين بتراب الطريق مــعى ... أبى دائما يقول " الحكاية تحمى أصل الحياة لنا "... آمنت أنا بذلك ... أتسلل بشغف داخل حكاية الـحاج " أبو سعد " الذى أوقفه جندى شرس أيام الشتات الأولى ليرى بطفولته المرتعبة كل أهله وقد تكوموا داخل الخندق كتلة متراصة واحدة مختلطة اختلاطا دمويا فيما كان خيط من الدم الأحمر يجمع مصيرهم ....بل إنه مازال يتذكر جملة الجندى الساخرة بحروفها .
- تذكر هذا جيدا وأنت تحكى الحكاية ... هيا أركض .
يكررها بنبرة اختناق ... يندفع اللون الأحمر الغاضب إلى وجه عم ( سعيد ) صديق الدرب مع أبى الذى عبر معه جبال الأردن و قفزا عبر النار وزحفا تحت الأسلاك الشائكة و لوحوا بأسلحتهم أثناء التدريبات التى كانت تطلق زغاريد نساء المخيم وتصدح بالأمل .
- لقد أذقناهم نفس الألم .. با أبو سعد لا تحزن .
أبى يدعم حكاية عم سعيد بإيماءة مؤكده .... عم سعيد يخبر الجميع بان ( غسان كنفانى ) كاتبنا الذبيح قد جعل منهما بطلا لقصته .
أواصل التعبئة .... بينما أغط فى مساحة خيالى أبحث عن ملامح قريبة لبطل قصة أعتاد أبى أن يحكيها عن شخص مثلنا استطاع فى فورة صدام مع قطيع مستوطن أن يحرر منهم قنبـــلة يدوية
مازال يوليها رعايته ويطرد عنها أى شبح للصدأ قد يسكن تجاعيدها المعدنية داخل علبة خاصة صنعها لها بنفسه ... ينتظر يوم أن يردها لأصحابها على طريقته .
تتكاثر عليه الأســـئلة عن اسم بطله وعن عائلته ومن أى مكان جاء وعن ملامحه.... لكنه يكتفى بنفس الإجابة المتهربة
- اعتبروها مجرد قصة .
( 2 )
يتوسطهم الموقد ... يجمعهم القلق حول صورتى المتصدرة شاشة التلفاز بحفنة من الأكاذيب التى لم تمر حتى بالفرب من عقلى المشغول بلون البنطال الذى أحلم دوما به .
علامات القلق تملأ عيون الجميع .... أمى تتوسل أبى أن يذهب بى إلى منزل خالى فهو أكثر أمانا فى نظرها .
- ليش ... ؟ هايدى داره .
تتشابك معه آراء سكان المخيم تبحث عن حل سريع لا يلقى بسنين عمرى الأولية وراء شمس " عوفر " ... و مجدو سالم ... " و " النقب " .. و "الكريمل " ... ( 1 )
- وين يعنى يروح ؟ أما أتدرون ... نحنا مازلنا فى زمن الاشتباك .
نبرته الواقعية أسقطت كل الكلمات المعلقة على شفاة المقترحين ... أصدقاء أبى يصرون أيضا أن يقابلوهم هنا

- أخيرا .... أصبحت لنا قصة حاضرة تجمعنا معا .
ينسحب أبى إلى غرفته برهة ثم يعود بكوفيته تطوف بنقطها الحمراء حول رقبته .... والدتى تواصل إعداد أبريق الشاى مبللة بغشاوة دمعية لم تجف منذ أن قابلهم أخى الأكبر أيضا عند صلاة الفجر مرة .... و لم يعد بكينونته .
... كنت أنا من تبقى لها

( 3 )

صرير عجلات سياراتهم المصفحة ينزع هدوء المخيم , وأنوار كشافاتها الساطعة تغشى ضوء مصباح الدار المتواضع ... صوت هجين ينبح باسمى فى الميكرفون ... أسكن جسدى التحفز ... والـــدى يبدو
كأنه تخلص من جرعة الفزع خلال حكايات الماضى التى سكنته ... اقتحموا ببــذاتهم الداكنة الخط الفاصل بيينا وبينهم .... بالأمر أوقفوهم صفين تتصلب أيدهم فى الهواء .... حبات العرق تتكاثف على
خوفى الملتصق بجبهتى ... أعلن أخـيرا جنديان بأن الدار خال من أثرى .. ابتسـامة ساخرة كاملة على وجــه أبى الملقى بثقل سنينة الستين على عكازه يترأس الصف يمنحها لهم .... تنطلق إشارة عصبية من قائدهم ... يجذبونه معهم إلى سياراتهم التى تنتظر عودتهم بأى صيد .... أعوى فى مكانى من قسوة الضعف ... اسمعهم يزجون به داخل لغتهم ... استغرب استسلامه لهم ... بنظرة ملتاعة من فتحة السقف اتابع طابور السيارات يرحل ,لكن عند رأس الشارع دوى انفجار هائل أطاح بنصف الطابور وضاعت أشلاء كثيرة بين الحطام .
لم أعرف السبب لعدة أيام و أنا أعبر جنح الظلام نحو جبال الأردن مع أمى التى أخرجت ذات مرة من صرتها البيضاء المعقودة بعناية - علبة معدنية فارغة - تسألنى فى فضول حزين
- أتعرف ... لمن هذه ؟

-----------------------------------------------------
(1 ) أسماء لأشهر سجون إسرائيلية

0 التعليقات:

إرسال تعليق