بلا شك أنه قد بذل جهدا إضافيا يعتلى به فوق حالة الإرهاق التى تمضى بحرية داخل جسده المهدود وهو يعبر الشارع بعد إن أانهى يوما أخر من روتين حياته – كالعاده ذهب إلى عمله - وقف فى مكانه بــــبذلته الداكنة الموسومة بشعار الشركة و قد رسم على شفتيه إبتسامة مفتوحة بطول وعرض ساعات العمل حسب طلب المدير يستقبل بها من مكانه فى قسم خدمة العملاء الذين يتكالبون على أذنه وأعصابه بشكواهم المنطقية واللامنطقية بينما مجبرا هو على أن يتعامل فى كل مغالاتهم المعتاده حتى لا يستغلها مديره فرصة لإظهار قدرته على توقيع الجزاء .
توزع ببعض اليقظة المتبقية وبين حركات مناورة يشغل بها مساحة الفراغات المتاحة بين طابور السيارات المندفع فى عجالة التى يخشى أصحابها أن تستوقفهم إشارة مملة فى شارع أبى قير المختنق بزحامه .. خطوتين للأمام ... تماشى بالجنب ... تقوس مفاجئ مع تيار هوائئ مصاحب لميكروباص مسرع يصد تقدمه نحو الرصيف الذى التقطه بارتفاعه الحديث بعدها ليكمل طريق عودته اليومى نحو شقته الوحيده مثله بعد أن غادرتها والدته لتلحق بموت مفاجئ والده الذى سبقها فى الرحيل بعدة أشهر قليلة دون إنذار مسبق ... كثيرا لام عليهم قبولهم السريع للرحيل قبل أن يروه يبدأ حياة جديدة قد ترفع عنه أكوام الكراهيته لتلك العودة الفردية المحتومة.
... يتعمد إبطاء خطواته مثل كل يوم ليكتسب لحظات إضافية ينغمس فيها مع ضجيج الشارع حتى يظن المارة بأنه أحد يتسكع بلا هدف قبل أن تحتويه جدران الشقة التى بات يتدلى منها ملل دائم كما يقول لنفسه أو – يمزح كعادته- مع أصدقاءه ... يتصفح الوجوة والمشهد العام حوله مع تقدمه على الرصيف.
يجدها كضفدع جائع تلتصق بنظرتها له كزبون محتمل بإحدى نظراته العابره من وراء صندوقها الكرتونى الذى تتخذه كمنضدة منبعجة تأن تحت ثقل أكياس العيش المعبأة بعدد تنتظر آكلها بعد أن اتخذت بجسدها الضئيل و سنينها اللينة مجلسا بين مؤخرتى سيارتين يتباهيان عليها بأرقامها المميزة.. يهرول بنظرته بعيدا عنها حتى تخرجه من عينيها الطفولتين المصلوبتين عليه فهى لا تعلم إنه قد أضاع شعور الاشتهاء لأى شئ .
يقرر ببعض الخطوات النشطة أن يجعلها ماض خلف ظهره ... تصد فكرته بسؤال اعتادت على تكراره على المارة .
- يا عم ... تشترى منى عيش ؟
بحث داخل ريقه عن إجابه يمنحها لها أمام عرضها المصر على توقيفه .. بنصف رقبة أو أقل منحها تعبيرا بعدم الرغبة .
- خد بس منى... متقلش لأه .
تدفق الكلمات بنبرة ناضجة بعض الشئ من جسمها التائه فى ملابسها الواسعة جعله يضغط بفضوله على خطوته القادمة لتتوقف فى مواجهتها ... سريعا تمسك بكيس عيش قريب ترفعه إليه تحاول أن تقربه من قرار بالموافقة أو فتح باب الخجل فيه أمام قوة إلحاحها.
- بس أنا مش عايز.
- خد بس ... علشان خاطرى .
- و ليه يعنى .. ؟
- علشان لازم أروح بدرى النهارده .
مبررها الصريح نقله فجأة من منطقة الرفض الحاد إلى المهادنه بما جعله يهوى بنظرته يعد أكياس العـيش المتبقية التى تمارس حالة ( عند ) على رغبتها البسيطة.
- عايزة تروحى ليه ... ؟ مش الفرجة على الناس و الشارع أحسن .
- لازم أروح بدرى .
- فيه حد مستنيكى يعنى ؟
رفعت كتفها ثم أنزلته بخيبة الفراغ تحت وطأه وحدة مفروضة عليها منذ أن جاءت الدنيا لا تعرف لاسمها هوية محددة بعد وجدها أحدهم فى صندوق تداولته الأيادى ما بين رحمة وغلظة وانغماس مبكر داخل حياة ثقيلة.
- لا بس لازم أرجع و إلا يومى مش هيبقى فايت من صاحب الفرن.. ده هيخلينى أنام
فى الشارع لوحدى .
شعر بحالة تعاطف أنسته دواعى تجاهله السابقه لها ... ظلل لها على شفتيه ابتسامة تفضح رغبته فى مساعدة قساوة حياتها التى تشب عليها بقامتها السوداء بعدما جعلته يدرك رفاهية فى حياته لم يفهمها بعد.
- هتشترى بقه ... ؟
نقل حمل جسده المتساقط من التعب إلى قدمه الأخرى ... بينما يقذف لها بقراره
- هاخدهم كلهم .
مــــلامحها الملفوحه بــــحمرة شمس النهار و شعـــرها المنفلت بخشونـته من خلف (توكتها) المهترئة تندفعان بفرحتها إلى صندوقها بشغف تجمع له أكياس العيش داخل كيس أكبر.
( ربنا يخيلك يارب ... بص حطوا فى التلاجة هيــــــعيش أكتر ... و الله ده عـيش
طازة بزيادة ... ) .
أسلمت له الكيس بمعالم انتصارها على عبئ القــلق من احتمالية العقاب تتجلى على فراغ صندوقها الذى ضمته فى عجالة قبل أن تتطلق عكس اتجاهه بفرحة عودتها لعالمها باكرا... حتى قبل أن تراه يشد على خطوته الجديدة بكل قوته نحو شقته.
... ويمضى يسير ,,,,
0 التعليقات:
إرسال تعليق